النوافذ المغلقة

النوافذ المغلقة
النوافذ المغلقة

النوافذ المغلقة

ولاء صبري الدسوقي

أخذ يتقلب في فراشه ثم نهض باكراً على غير عادته …لإنجاز مهمة كان عليه إتمامها منذ بداية شهر مضى…بيد أنه أخذ في التسويف حتى بلغ منتصف الشهر التالي ..

وشارفت المهمة أن تنقضي..فلم يجد بداً من إتمامها في ضجر شديد ..ولم تكن بالعسيرة..وإنما كل ما تتطلبه الاستيقاظ باكراً بعض الشيء…والتوجه لإحدى الجهات لاستخراج بعض الأوراق الرسمية…
ورغم سهولة الإجراءات المطلوبة ..فإن المشقة لا تكمن في الجهة ولا فى الأوراق..وإنما في إقناع نفسه المتبرمة على الدوام ..بالاستيقاظ في الصباح…

وبعد أن نهض في تثاقل شديد…بدأ بإعداد قهوته المسائية…إذ يحتسيها دوماً عقب الظهر بقليل بعد استيقاظه…وأثناء لحظات نضج القهوة الرتيبة..دارت في ذهنه الأسئلة التي لا تبرح ذهنه إلا قليلاً ..
عن جدوى الحياة وهدفه منها…وتذكر هدفه الضائع..وكيف كان معذباً مشتت النفس موزع الفكر قبل أن يحدد قبلته في الحياة ويملك حلماً..ثم إذا بالحياة تعبث بتلك الأحلام ..ويجد سدوداً منيعة تحول بينه وبين ما تمنى…

فإذا بعذابه أشد ألماً… وإذا الدنيا في ناظريه كمتاهة لا يدري لها بداية ولا نهاية…

مصر جايه

ولكم رثي لحاله..وشعر أن الدنيا تمنينا بالأحلام وتبسم في وجهنا .. مشجعةً إيانا على التمني..

فإذا ما تشبثنا ببسمتها التى هي كالشمس في ضيائها وأسرفنا في المنى..وسعينا في طريق الأحلام..تجهم لنا فجأة وجه الحياة…وبدت الأحلام كأنما استقرت في ظلمة المحيط..

وبينما هو غارق في أفكاره…انسكب بعضاً من القهوة على الموقد فانتبه…وندم على وجه القهوة الذي ذهب سدىً كما ذهبت من قبل أحلام الحياة

ولم يعد أمامه سوى أن يرتشف قهوته بلا وجه.. تماماً كالدنيا التى ولته ظهرها
ثم استحث خطاه على النهوض لارتداء ملابسه…فلا جدوى على الإطلاق من استقبال الصباح بنظرات الحسرة..وإنّ الحياة مع ذلك ..ورغم ليلها الطويل..وعبوسها الدائم ..ليبسم نهارها المشرق على الدوام..

كأنما لتخبرنا..أنه رغم الٱمال الضائعة والحسرة اللاذعة…علينا أن نستقبل نور الحياة بنفسٍ متجددة بتجدد شمس الحياة…

وأنه لا داعي أبداً للمرارة المترسبة في الأعماق..فلربما تتبسم ولو بعد حين…وأنه رغم كل شيء..لا زالت الشمس تشرق كل يوم ..فلعل في الغد ما تمنيناه طويلاً…

ومنحته تلك الخواطر المتفائلة في نهايتها..طاقة أعانته على مبارحة منزله واستقلال وسيلة مناسبة توصله للجهة المقصودة…

وبينما يهم بالركوب..جال في خاطره..أن لو كانت لأحلامه وسيلة توصله دون عناء.. ولكن هيهات..هي الحياة … هدى بعد طول ضلال..
ولم تخيب العربة رجاءه…فوصل في زمن يسير..فتحسر أكثر على الأحلام..التى عجز حتى عن تبين وجهة تهديه إليها ولو بعد حين…
وأتم مهمته..ثم خرج لا يلوى على شيء…يجول في الطرقات..دون أن يلفته شيء…

فلا وجهة ولا بادرة أمل..وسيان بين أن يسرع الخطى أو يمضي على مهل…سيصل على أية حال…فالطريق إلى منزله معلوم …أما أحلامه…فلا مستقر لها سوى خياله الحسير..

وجال في خاطره أن يستريح بعض الوقت في مقهى ..يوحي منظره بالرقي وحسن الذوق…فدخل دون تردد..بعد أن تفحص نقوده..وطلب قائمة المشروبات…فوجد محتوياتها لا تتميز كثيراً عن أحلامه…طلاسم أجنبية …ذكرته بخيبته في تعلم اللغة الإنجليزية..

ولما طال تحيره أمام النادل أشار لصورة أحد المشروبات…فابتسم النادل في تودد مألوف وسأله أيود إضافة بعض الكريمة..فهز رأسه موافقاً… أخيراً قد عرف شيئاً ينتمي إليه..ثم أخذ مشروبه المثلج رغم برودة الشتاء…وانزوى في مقعد مريح…

يشاركه فيه زبونا ٱخر…وجده منهمكاً في إنجاز عمل ما على اللاب توب…واختلس النظر إليه من حين لٱخر…ووشت نظرته برغبته في محادثة هذا الرفيق المنشغل بعمله..ولكن دون جدوى…

فواصل احتساء مشروبه البارد..وتشاغل بالنظر للميدان المحيط بالمقهى…ووجد حركة المرور بطيئة…والسيارات تمضي في تثاقل وضجر…وتأمل حال المارة..

فمنهم من يمش على عجل…ومنهم من يسير بلا هدف…ومن ينعم بالصحبة…وتساءل عن دافع هؤلاء للحياة..ولأي شيء يحيون…

ولم يكن ممكناً أن يجيب هو…إذ قد فقد الدافع منذ أمد بعيد…ونظر لهاتفه…فوجد نفسه قبيل العصر بقليل..فاستحث نفسه على النهوض ثانيةً…وسار غير قليل…

ثم لاحت له واجهة المبنى الذي تقدم له مراراً… طامحاً في العمل فيه..لكنه أوصد أبوابه في وجهه…ورافقته الخواطر من جديد…

وتأمل ملياً في النوافذ المغلقة…فخالها وجه الدنيا المتجهم في وجهه أبداً…رغم ذلك قادته عيناه إلى نافذة مفتوحة…في ذات المبنى…

فسرى في نفسه شعاع الأمل..وجال ببصره في الواجهات الجانبية للمبنى..فوجد نوافذ أخرى غيرها وقد انفتحت على مصراعيها…فقوى الأمل في نفسه…وعزم على المحاولة من جديد…

فحتى النوافذ المغلقة…قد تسرب النور من بين ثناياها…ولربما تشفق عليه الأقدار وتحصي محاولاته المستميتة..فتجد أنه جدير بتلك الأحلام
فليكمل سعيه ولا يتوقف …وسوف تشرق له شمس الحياة
ولئن أوصد هذا المبنى أبوابه وسُدّت نوافذه….ففي النوافذ الجانبية شيء من عزاء…

فهو يتوهم أن هذا المكان هو طريق الوصول الوحيد..ولكن هذا هراء…أياً كان المكان…فلابد للأحلام من أن ترى نور الحياة…

النوافذ المغلقة
النوافذ المغلقة

لا تعليقات بعد على “النوافذ المغلقة

  1. تنبيه: اقـرأ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *