الحرية المطلقة
الحرية المطلقة..
بقلم د. أمل درويش.
أن تكون مُعلقًا في الهواء، داخل قفصٍ فولاذي، فبينما تتوقع أن تكون حرًا تطلق لجناحيك العنان لترفرف وتجوب الفضاء شرقًا وغربًا، لكنك للأسف لا تقدر..
فحريّتك على متن هذه الطائرة محدودة جدًا.. ما بين وجبة دجاج أو لحم!!
نعم هذا كل ما تجرؤ على اختياره، فلن تنعم بهدوءٍ أو سلامٍ وأنتَ حبيس هذا الصندوق برفقة مئات الطيور المعلقة مثلك..
بكاءُ طفلٍ يتسلل ليغزو تلابيب عقلك دون استئذان، عِراكُ أحدهم حين اكتشف فجأةً أن مقعده لا يجاور النافذة فيظفر بمساحةٍ من الحرية لعينيه يلقي بهما في أحضان الفراغ، حيث اللا شيء غير نورٍ يغمرك في النهار أو ظلام يأكلك، يبتلع كل التفاصيل فلا ترى أين أنت ولا تدري أين وجهتك!
وتعود عيناك أدراجها، وتؤول إلى محجريها، تنشدان بعض السكون، وعقلك يود أن يفك طلاسم هذه المعضلة، أين الحرية التي طالما حلمنا بها وثُرنا لأجلها قرونًا وسنوات؟
ثوراتٌ متتالية منذ قديم الأزل، على كل رقعة فوق وجه الأرض، مسكين هذا الإنسان حين تصور حريّته تأتيه بالغضب والفوران..
فمتى كانت ثورة البركان تجني سوى الدمار والهلاك؟
أعلم وأنا ما زلت أكتب هذه السطور أن هناك من يتربص وينتظر قراءة سطر منها ليثور ويفور ويرد بأننا لولا الثورات لكنا عبيدًا دون محال..
وأن الغضب محتم ولابد..
فمتى كانت الدنيا تؤخذ إلا غلابا؟
وعليهم أرد:
لنقف لحظةً ونلقي بنظرة أخرى، ربما وجدنا في الصورة آلاف التفاصيل التي لم نرها حين حجبتها عنها غيوم الغضب..
للثورات الحقيقية حُلمٌ وهدف، وطريقنا لتحقيق هذا الحلم طويل يمتلئ بالصعاب، ولهذا فهو يحتاج أكثر من مجرد انطلاقة..
يحتاج رؤى وخططًا لتغيير سلوكياتنا، وتغيير أفكارنا وطريقة تعاطينا مع مطالبنا، والحلول التي نقدمها لتخدم هذا الحلم وتيسر رحلة التغيير..
قد أبدو مثالية أكثر من اللازم ولكنني أعترف أنني بداخلي مثلكم الكثير من الفوضوية والتأجيل..
وكلما هممتُ بالتغيير أرجأتُ هذا وذاك.
ولكن من قال أن التحرر من القيود يسير؟
ومن قال أن الحياة تخلو من القيود المطلقة؟
نعم لا توجد حرية مطلقة، ففي هذا الصندوق المعدني لا تجرؤ أن تقف خلال لحظات الصعود والهبوط، ولا يمكنك فتح الأبواب وإلا هلك الجميع.
كذلك رحلتنا في الحياة تحتاج لبعض القيود؛ وتخلو من الحرية المطلقة.
فإذا أردنا مجتمعًا أفضل فلنتفق سويًا على وضع هذه القيود معًا وأن نلتزم بها جميعًا دون استثناء..
يتعجب الكثيرون منا كيف نهضت أوروبا في العصر الحديث بعدما غرقت في القرون الوسطى في بحار الدماء وعانت التخلف والجهل..
وكيف توارت حضارتنا بعدما كانت تقود الأمم؟
وأرى ببساطة أن أوروبا الحديثة وضعت قيودًا لا يكسرها أحد مهما كان منصبه وكانت مكانته في المجتمع..
ولكن شعوبنا فهمت مفهوم الثورات وطبقته بشكل خاطئ فترجمها معظمنا على أنها الحرية المطلقة.
أستطيع أن أخرج في الميدان وأصرخ بأعلى صوت لأقول فقط أنا هنا.. هذا لا أريده وهذا لا يُعجبني، أهدم نظمًا وقوانين ولكنني فجأة أكتشف أنني لا أملك
البديل، لم أتوقع أنني سأحقق في لحظة ما ظننته مستحيلا، ليس لقوة خارقةٍ امتلكتها ولكن لهشاشة الأحوال وقتها..
ربما صادف معولك بقعة هشة من سطح الأرض فتفجرت تحتها ينابيع بركان فأحرقت اليابس والأخضر ليس لقوة ضربتك ولكن لضعف المكان؛ إذن لم تكن قوتك الحقيقية هي السبب، فلا تظن أن دعوتك للتحرر من كل القيود كانت الحل..
تذكر دائمًا أنه لا حياة دون حدود وإلا فنحن نعيش في غابة ولسنا في مجتمع يحوي عقولًا وأحياء..
حتى الغابات تلتزم بقوانين ونُظم وفي كل قبيلة حيوانات لا تبغي إحداها على الأخرى وإلا ساد القتل والفوضى وانقرضت جميعها واختفت آثار الحياة..
ولهذا كله نستخلص ضرورةً مُلحةً ألا وهي تفعيل دور العقل المستنير والاهتداء إلى ما يرشدنا إليه.. فلا يجوز الخروج على قاعدة اتفقنا عليها من قبل لتنظيم شؤوننا، كمثل أحكام النحو والصرف فحين تقرأ نصًا وتجد التواءً وحيادًا عن قاعدة تثور بداخلك رغبة للعودة إلى أول سطر، وتود لو كان ما تقرأه مجرد التباسٍ على النظر..
فكما لا نقبل نصًا يضج بالأخطاء الإملائية والصرف لا نقبل أن نعيش فوضى الخروج عن نصوص الحياة وأن نجد من يتعدى على الحقوق ويجور أو يظن نفسه فوق أي قانون، حتى تمادى البعض وظن أن غزو قلوب البشر يُبيح له فعل أي شيء وأن حب جماهيره يجعله فوق القوانين بل وربما ابتدع لنفسه سطوةً وهالةً لا يستحقها..
حالة من الفوضى نفثتها رياح خماسين الربيع العربي فأزكمت الذوق العام وأرهقت العقول والأرواح التي باتت تشعر بالاغتراب على أرضها فحين تداهمك نوبة الحساسية لا تشعر بالراحة وترى كل شيء في عينيك صار مختلفا..
وحين يتسيد صدر اللوحة مجموعة ألوان متنافرة رفضت الخضوع لقوانين الطبيعة في اختيار الألوان وفرضت ألوانًا تشمئز لها العيون..
فصارت هناك ضرورة للتدخل وتعديل الصورة وإلا أُصبنا بعمى الألوان واعتدنا هذا التردي أسلوبًا للحياة فهوى بنا في مستنقع الجهل، ومقبرة التاريخ ما زالت تتسع للكثير إن لم ننتبه ونعود من هذا النفق بأسرع وقت.
لا تعليقات بعد على “الحرية المطلقة”