التجربة

التجربة
التجربة

التجربة

ولاء صبري الدسوقي

لطالما كان حديثه يستأثر بالأسماع ويذهب بالألباب..قد أُوتي من سحر البيان الشيء الكثير..فنعتوه مثقفاً وخطيباً مفوهاً…

وودوا لو يظفرون بمودته..علّهم ينهلون من رحيق حكمته…ويفيدون من علمه الغزير..

ولكنه لم يكن يحسن الصحبة…ميالاً للعزلة..عاشقاً للوحدة…قد قنع بالحياة بين جنبات الكتب..لا يأنس بغيرها….وظنها تكفيه رحلة الحياة…

غير أن عزلته لم تكن تامة..فلطالما أفسد عليه معجبوه وحدته..وشتتوا وحي أفكاره…والتمسوا منه النصح والعزاء في هموم الحياة..
ولقد سُرّ الفتى أحياناً بهذا الدور…وداخل نفسه شيء من الغرور…فأينما حل لقي من جميل الثناء عليه ما يدير الرأس حقا…بيد أنه …ورغم هذه الشهرة التى مُني بها…

…كان يخالج صدره دوماً شعور غامض بأن تلك الحياة التي يعدونه خبيراً فيها…لا يدرى عنها شيئاً البتة…وأنه صفراً من التجربة… لم ينتظم في صفوف الحياة يوماً…قد تقوقع طويلاً داخل نفسه… مكتفياً بمطالعة الكتب …صامّاً أذنيه عن الدنيا وما فيها..

.. قانعاً بالصورة المثالية التي رسمها للعالم..مغمضاً عينيه عمّا سواها…موجعاً الرؤوس بالحديث عن الصبر والكفاح والحرية والصمود.. والأمل والتفاؤل

…وهو غر ساذج..حديث عهد بالحياة…لم يجرب الصبر يوماً ولم يخبر شأن الهموم…ولم تكربه الدنيا ولم يدري كنه الألم… فهناك من يعوله..ويدفع عنه عناء الحياة..

قد اعتاد الدرجة الممتازة في كل شيء..في المعاملة والبيت والمدرسة والمواصلات…كل شيء كان يمضي دون عناء…

جريدة مصر جايه

فلم لا يصدع المألومين بكلمات الوعظ الجميل ؟!
وهل يعرف الشوق إلا من يكابده؟؟!

.. فلكم حادثته الكتب عن أحزان الحياة…ولكنه لم يقف أمامها طويلاً ولم يعرها انتباهاً… قد استحال على عقله أن يدرك أن تلك الحياة التى تلاطفه وتهادنه..هي نفسها الحياة التى تعبس في وجه غيره!..

.. وأنَّى لمن لم يخبر الشيء أن يشعر بمن يئن تحت وطأته؟؟

ولكم طال حزن الفتى _بعد أن تقلبت به الدنيا وأذاقته شيئاً من مرارتها_ على مثاليته المفرطة التي بلغت حد القسوة أحياناً..فى توجيه النصح لكل من أتاه شاكياً عناء الحياة..

كغريق… اشتد صراخه…طامعاً في النجاة….فلم يسعفه سوى بمزيد من الإرشادات وهو جالس على شاطيء الحياة..لم تبتل قدماه

ولم يخفف من أحزانه شيئاً سوى أن الحياة نفسها قد اقتصت منه وبالغت في السخرية من أحزانه…وكلما همّ بالشكوى…تذكر وعظه الجميل…ونصحه السديد
فيضحك من نفسه وعليها …كم كان جاهلاً..لا يدري شيئاً …وعدوه خبيراً !!

قد كانت خبرته نظرية..محفوظات من كتب المطالعة…نتاج تجارب الٱخرين..لا تجاربه هو..

لكنّه الٱن شيء ٱخر…قد خبر بعضاً من ٱلام الطريق.. فالتزم الصمت…وتوقف عن إسداء النصح…

علم كيف تموت الٱمال…وكيف يقنع باليسير…رأى الحياة تقسو بلا رحمة..وتسحق بلا هوادة..

علم أن شعارات كثيرة لا تصمد طويلاً في معركة الحياة…وأنَّ لقمة العيش..هي صاحبة الظفر في كثير من الأحيان..

هكذا علمته الحياة… وعلمته أيضاً..أن يكف عن الشكوى..وأن يخفي البكاء…فالكل يعاني الألم…ولا مهرب من أن نكمل الطريق..فالأرض لا تكف عن الدوران!

التجربة
التجربة

لا تعليقات بعد على “التجربة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *