هل نبحث فعلاً عن الوهم؟؟
هل نبحث فعلاً عن الوهم؟؟
أحمد سلامة التهامي
خلال رحلة الإنسان في حياته اليومية ودوامة العمل و متطلبات الأسرة يحتاج إلى الخروج من تلك الدائرة بكل ما فيها من ملل و قسوة، و طالما كانت السينما هي المهرب للإنسان ، لكن كانت هناك إشكالية مهمه وهي هل نحتاج لأفلام تخدرنا عن الواقع أم نحتاج لأفلام تعرض واقعنا الذي نعيشه ، و مع ظهور التيارات الواقعية في الفن السينمائي و خصوصا السنيما الإيطالية ظهرت العديد من الأفلام الواقعية، و من أبرز رواد هذا التيار حالياً جوزيبي تورناتوري الذي يعتبر أفضل مخرج خارج هوليوود و قد ترشح لجائزة الأوسكار مرتين و نالها عن فيلمه الرائع سينما باراديسو “cinema Paradiso” ،و تتجلى عظمة جوزيبي تورناتوري في إظهار البعد الإنساني و الفلسفي للشخصيات وتعبيرها عن الإنسان ، عن الأحلام و الطموح، عن النجاح وعن الفشل ،عن الإحباطات ، عن القيم النبيلة ، عن الإنحطاط البشري. حيث يبحث البشر عن خلاص لهم حتى ولو كان متوهما ، و هنا نتسأل مع جوزيبي تورناتوري هل نبحث فعلاً عن الوهم؟؟ فكانت الصورة السينمائية الرائعة صانع النجوم ” the star maker” أو كما بلغته الأصلية “L’uomo delle stelle” ، و تدور أحداث الفيلم حول “موريللي” الذي يجوب قرى صقلية بشاحنتة التي تحمل كاميرا للتصوير السينمائي ، معرفا نفسه بأنه مكتشف للنجوم و يبحث عن ممثلين بغض النظر عن عمرهم أو جنسهم و ذلك مقابل مبلغ مالي هو ثمن الفيلم الخام ، حيث يداعب آمال الناس في الخلاص من واقعهم البأس و محاولتهم الوصول إلى الثراء و لو من خلال شراء وهم تجربة الآداء .
جريدة مصر جايه
و من خلال تجارب الاداء نرى تشريح للنفس البشرية حيث يعبر الناس عن أعمق المشاعر و الأسرارو كل ميولهم أمام الكاميرا فنرى نماذج عده من البشر كالأم التي تقدم نفسها مقابل إنجاح ابنتها في إختبار التمثيل ، أو كالحلاق مثلي الجنس الذي يعاني من نظرة المجتمع له ، أو كالمحارب القديم الأخرس الذي ينطق أمام الكاميرا حيث فقد الرغبة في الكلام أمام الناس بعد ما رآه من أهوال الحرب.و حتى ضابط الشرطة الذي يريد خوض التجربة هو الآخر لكن بمعزل عن أعين الناس . إلى أن تظهر “بياتا” الفتاة التي تخدم في الدير و التي ترغب هي الأخرى في دخول عالم السينما و ترك الدير و القرية رغم تأخرها العقلي ، و التي في سبيل الحصول على قيمة الإختبار تقوم بالتعري لإحدى الأشخاص مقابل المال.و التي تعتبر “موريللي” بمثابة المنقذ و المخلص لها ، حتى تطارده أثناء سفره من قريتها و تحاول اللحاق به من أجل يدخلها لعالم الأفلام رغماً عنه حيث يحاول التملص منها.
و يتعرض “موريللي” لسرقة سيارته و أمواله و معداته، لكن مطاردة “بياتا” له تمكنها من رؤية سيارته واستعادة ما سلب منه ، لتتطور العلاقة بينهما لتصبح علاقة إرتباط عاطفي ، و يصحبها معه في رحلته كمساعدة له، إلا أنه سرعان ما يتم القبض عليه من قبل الشرطي الذي قام بتجربة أداء له من قبل ، حيث إكتشف أنه نصاب و ليس له علاقة بشركات الإنتاج بل إن الفيلم الخام الذي معه منتهي الصلاحية.
و أثناء ترحيل “موريللي” للسجن تقوم المافيا بمعاقبته لسابق نصبة عليهم بالضرب المبرح حتى فقد وعيه.وبعد انقضاء عقوبة السجن يرجع “موريللي”لقرية “بياتا” باحثاً عنها ليكتشف أنها قد أصيبت بالجنون ظناً منها أنه قد مات ، حتى أنها لا تتعرف عليه وتقص عليه مغامراتها مع “موريللي” الذي قدمها لعالم السينما و حياتهما كنجوم أفلام و كل ما حلمت به و توهمته عن عالم السينما و الأفلام ، و لعدم تعرفها عليه يخبرها أنه صديق ” موريللي” و أنها الحب الوحيد و الحقيقي ل ” موريللي” وأنه سوف يجمع المال و يعود لها . لينتهي الفيلم وهو في شاحنته مسترجعا ذكريات الماضي عن الناس الذي باع لهم وهم المستقبل ليعيش معهم وهم الماضي .
موسيقى إنيو موريكوني كالعادة من العناصر المبدعة في الفيلم حيث تزيد من إحساس المشاهد بشعور الممثل و الإحساس الذي يريد المخرج إيصاله للمشاهد .
مشهد اكتشاف “موريللي” جثة ملقاة في النهر ببداية الفيلم وعدم
إهتمام أحد بها يصور حال الفقير و العامل في المجتمع الرأسمالي حيث لم يعد يهتم المواطن سوى بأمر نفسه فقط و إعالة أسرته خصوصاً تحت وطأة ضغوطات الحياة.
مشهد دخول “موريللي” لإحدى القرى ودعاياته حول السينما و الثراء و الشهره مصادفا لدعايا الأحزاب السياسية (الحزب الشيوعي و الحزب الديموقراطي المسيحي) يظهر أن السياسيين أيضاً يبيعون الوهم للفقراء و أن الكل ينصب على المواطن.
مشهد رفض الدير لعودة “بياتا” حيث أن رفض عودتها إلى حيث تنتمي لم يجعل أمامها سوى التمسك بالسينما سواءً كانت حلم أو وهم. مشهد تحول الدير لورشة سيارات بعد خروج “موريللي”من السجن يوضح بداية التحول عن الدين في المجتمعات الأوروبية والذي أدى لما نراه حالياً من إنحلال قيمي و سلوكي.
مشهد ظهور جهاز التلفزيون و عزوف الناس عن السينما بعد خروج “موريللي”من السجن في إشارة لتغير الزمن و تغير اهتمامات الناس و أن السينما لم تعد الشغف بل التلفزيون بما يعرضه على الناس من إبهار و أحلام بل و أوهام أيضاً.
جوزيبي تورناتوري يأخذنا في رحلة للنفس الإنسانية التي أشقاها الفقر و العوز و الإستبداد ، لتجد نفسها بحاجة إلى المنقذ و إلى المخلص ولا يهم إن كان وهما أو حقيقية ، و أن الوهم و الأكاذيب هما ما يسكن ألم الإنسان في انتظار الخلاص.
لنعود و نسأل أنفسنا إن لم يكن هناك وهما نحيا على أمل أن يصبح واقع أو كذبه جميلة نتمنى أن تصبح حقيقة، إن لم يعد أمامنا غير الواقع القبيح ، فهل نستسلم للواقع الكئيب ، أم هل نبحث فعلاً عن الوهم؟؟ .