قِصر النظر آفة البشر
قِصر النظر آفة البشر
بقلم د. أمل درويش
كثيراً ما كان يراودني سؤال لا أجد له إجابة.. لماذا يصيبنا داء قِصر النظر فلا نرى ما يحيط بنا من نعم، بل وربما غضبنا منها وكم اعتبرناها نِقم!
يأتينا الصباح ليغمرنا بنوره، ويدعونا لنفتح صفحةً جديدةً في كتاب الحياة، فنستقبله بالكسل والتراخي وتمتلئ عيوننا بالغضب.. ليته تأخر قليلاً فنلنا قسطاً أوفر من النوم!
ويأتينا الشتاء رحمةً بعد موسم طويل من الحر، يتلوه خريف يزيح ما تراكم على وجه الطبيعة من تجاعيد الجفاف، ويُسقط عنها شوائب أوراقها اليابسة لتنمو محلّها أوراق الخُضرة والنماء.. ولكن يبقى الإنسان على سابق عهده ناكراً للجميل يتذمر مع كل تغيير، ولا يرضى بأي بديل.
تتناثر أمطار الرحمة، تُطفئ غضب الطبيعة التي إلتهبت من ذنوب البشر، تغتسل بها لتشفيها من الدرن.. فيأتي بنو آدم بكل غطرسةٍ يلعنون البلل ويسخطون على الكون..
هل فكرنا للحظة ماذا لو كان الكون أرضاً منبسطةً دون جبال ووديان؟
ماذا لو كانت اليابسة خاويةً من مجاري الأنهار والسيلان؟
ماذا لو كانت الفصول مجتمعةً في فصل واحد بلا عنوان؟
شتاء على الدوام تكتسي فيه الأرض بالثلوج وتلتحف السماء بالغيوم دون شعاع دفء أو لمسة حنان.. وربما صيف دائم يحرق وجه الأرض ليمنحها لون السمرة أو كما يطلقون عليه بأبجديتهم الجديدة (تان).
التغيير سنة الحياة.. هكذا هيّأها الله سبحانه عز وجل.. وكما خلقنا فهو يعرف كل طباعنا ويعرف أن البشر يميلون للتملل والشكوى حتى من كثرة النعم.. ولأننا لا ندرك أهميتها إلا بعد فقدانها وفوات الأوان..
لقد وصلنا من التطور إلى حالة التشبع والإدمان، ووصلت مستويات هرمونات السعادة إلى أعلى مستوياتها.. وهذه نتيجة أبحاث عدة أجراها بعض العلماء.. وتعد هذه النتائج ذات دلالات خطرة وغير مطمئنة؛ فإدمان السعادة لا يقل خطورة عن إدمان المخدرات.. وحين يصل الإنسان إلى نقطة التشبع، يقع بعدها فريسة للاكتئاب؛ فلا شيء يكفيه بعد ذلك، ولا يرضيه ما كان يرضيه ويسعده في السابق.. حينها تتبلد المشاعر ويقف الإحساس..
وهذا ما صرنا نلاحظه اليوم خاصة على شبابنا، الذين افتقدوا أحاسيس هامة جدًا، ما بين الطموح والتشويق والسعي للوصول للهدف؛ فقد خطفت منهم برامج التواصل لذة الطموح، وسرقت التقنيات الحديثة شغفهم وسلبتهم الإرادة ليجلسوا بالساعات أسرى ما يُبث لهم من محتوى عشوائي يثير فضولهم ليظلوا على وضعهم موهومين أنهم يتابعون التطور المذهل من حولهم، ولكنهم بكل أسف لا يدركون أنهم مجرد متفرجين، خارج إطار هذا التطور.. وقد توقفت أحلامهم، وحياتهم الفعلية.. وربما انغمس بعضهم في هذا الجمود هروبًا من الإحساس بالفشل..
استمتعوا بكل لحظة، حتى الألم فلن نشعر بطعم الراحة بعده إن لم نجربه.. لا تكرهوا الفشل، فلولاه ما وقفنا أمام أنفسنا وواجهنا نقاط ضعفنا وعرفنا كيف نصحح وجهتنا وكيف نصل.. لا تتذمروا حين تلتقوا ببعض البشر غير الأوفياء، فلولاهم ما قدّرنا قيمة الوفاء وما منحنا الأنقياء قدرهم.
كل ما نمر به يترك فينا عظيم الأثر، وإن لم ندركه اليوم، يوماً ما سنرى أثره.
رأيان حول “قِصر النظر آفة البشر”